06‏/04‏/2018

#قصة_الثورة_في_حلب 1

مدينة حلب العاصمة الاقتصادية لسوريا، وثاني أهم مدينة بعد العاصمة دمشق، مكانة تاريخية وثقافية بارزة، وثقل سياسي وبشري هائل، باختصار هي ورقة الربح لمن يعرف استغلالها، لكن كيف صدمت هذه المدينة النظام والثورة على حد سواء؟

في أواخر سبعينيات القرن الماضي وبداية الثمانينات كانت هذه المدينة من أقوى المعاقل للإسلاميين المعارضين لحكم الأسد الأب، واستعصت كثيرا عليه حتى طوعها عسكريا باجتياحها من الفرقة الثالثة بالجيش السوري بقيادة الضابط النصيري شفيق فياض، واجتماعيا بضرب طبقة التجار والصناعيين من أبناء المدينة الذين شكلوا العصب الاقتصادي لجماعة الطليعة المقاتلة، واستبدلهم بفئة انتهازية متحالفة معه من حديثي النعمة كامثال الشبيحين فارس الشهابي والعزوز، ولم يكتفِ بما فعله بل ثنى ضربته على المشايخ المعارضين والمثقفين من أبناء المدينة، فقام بتصفيتهم أو اعتقالهم أو تهجيرهم، وبالمقابل صدّر للناس طبقة من المثقفين والمشايخ الموالين له قلبا وقالبا، أو على الأقل الذين لا يرونه عدوا، كالنبهاني، وتلميذه محمود الحوت، المعروفين باتجاههما الصوفي الموالي للحكام، كحال السلفية الجامية والمدخلية.

لم يقف الأسد الأب عند هذا الحد بل استقدم عشائر موالية له من الأرياف والبوادي فأسكنها مدينة حلب _ كشبيحة آل بري المشهورين قبل الثورة بتجارة المخدرات _ تحديدا في أحياء الميسر وباب النيرب والمرجة، وجلب أيضا عائلات ضباطه وموظفيه الموالين له خاصة أبناء طائفته، وزرعهم في المدينة بعد أن أنشأ لهم حي الحمدانية، وعمل النظام على نسف مفهوم الوجهاء في مدينة حلب بحيث أنه لا يوجد شخصيات اجتماعية معروفة تمثل أهالي حلب فعلا، فمثلا لتكريس الشقاق الاجتماعي كان إمام المسجد أو الخطيب من منطقة مغايرة لمنطقة أهل المسجد، وتحولت مديرية الأوقاف في عهدي الأسد الأب والابن إلى فرع مخابرات للتجسس على من يرتاد المساجد.

باختصار قام حافظ الأسد بعملية تخريب ديموغرافي ممنهج لنسيج المدينة الاجتماعي المتين، ليحوله إلى خليط هش غير متجانس يسهل السيطرة عليه وتسخيره، وسنرى نتائجها الكارثية لاحقا بعد اندلاع الثورة.

بدأت شرارة الثورة من درعا وانتقلت بسرعة إلى بانياس وحمص، واللاذقية، وريف دمشق، وكانت جميع الأعين تتجه لمدينة حلب، لكن النظام كان أسرع مبادرة، فقام بعد بداية الثورة بحملتي اعتقال متوازيتين ضمن المدينة، الأولى والأهم كانت موجهة لبقايا النخبة المثقفة من أبناء المدينة الذين قد يصبحون نواة ثورية واعية تهدد خطر النظام، والثانية تستهدف المجرمين المطلوبين، وأصحاب السوابق، وهدفها التغطية على الأولى، وتجنيد هؤلاء المجرمين ليكونوا لجان شعبية أو ما عرف لاحقا بالشبيحة.

مع ذلك بأواخر شهر آذار حصلت عدة تحركات ومحاولات تظاهر في عدة أماكن بالمدينة، كساحة سعد الله الجابري، والجامع الأموي الكبير، وأحياء الشعار، وبستان القصر، وسيف الدولة، لكن المخابرات السورية كانت تتمكن من إجهاضها بعنف وصمت بعيدا عن ضجة الإعلام، مباشرة فور بدئها.

عمل النظام على عزل حلب عن محيطها الثوري بخطة جهنمية، حيث قام بالضخ العقائدي عبر عملائه من مشايخ حلب كالحوت، والحسون، وعبد اللطيف الشامي وغيرهم، لأنه يعرف أن لأهل حلب ميل للتدين الصوفي، فعمل هؤلاء المشايخ العملاء على النشر بين أهل حلب أن ما يجري ليس ثورة، بل هو فتنة، ويحرم الخروج على بشار الأسد لأنه ولي أمر شرعي إلى آخر هذه الديباجة، وأيضا لفق النظام الكثير من عمليات إحباط تفجير سيارات مفخخة في أحياء حلب الشعبية التي ينتشر بها الفقر والجهل، وكانت لوحات هذه السيارات من مناطق تنتشر بها الثورة.

بنفس الوقت كان إعلام النظام يركز على إبراز حلب وأهلها على القنوات السورية أنهم مؤيدون له، ويخرجون بمسيرات، وأن الحلبيين شعب انتهازي لا يبالي بمشاكل غيره، وبدأ عملاء المخابرات السورية بحرب الشائعات والدعاية لتمزيق الصف السوري الثوري، ففي حلب ينشرون أن هذه الثورة هي ثورة ريف على الريف، وأن مصلحة حلب بالوقوف على الحياد، وبدأ عملاء النظام تحديدا من المشايخ بترويج العبارات الشهيرة " الله يطفيها بنوره " و " الله يظهر الحق " ، وخارج حلب ينشر عملاء المخابرات السورية أن أهل حلب شبيحة ومؤيدين، وكان لهذه الدعاية الأثر البالغ إذ انساق خلفها كثير من الناس، وبدأت تحصل تجاوزات مدعومة سرا من النظام ضد كل شيء يحمل اسم حلب خارج المدينة، ابتداءا من أهلها، وانتهاءا بالسيارات التي لوحاتها حلب.

وأيضا قام النظام بتقديم امتيازات كانت محظورة عن أهل المدينة وخصّ بها شبيحته، فمثلا أصبحت بلدية حلب تغض الطرف عن ملاحقة الباعة على الأرصفة والشوارع ( وغالبيتهم من الفقراء ) بعد أن كانت طوال سنوات سابقة تشن عليهم حربا لا هوادة فيها لتحرمهم من لقمة عيشهم، وسمح النظام لكبار شبيحة المدينة أن يستثمروا بخطوط النقل الداخلي للمدينة، وأطلق النظام العنان لشبيحته في البناء العشوائي مما سبب لمواطنين حالة من الإرباك الشديد والتخبط نتيجة المشاكل المسببة من قبل مخالفات البناء وتعدي الشبيحة على أملاك الناس، ساهم كل ذلك بخلق حالة من البلبلة الملهية عن موضوع الثورة.

ورغم كل ذلك كانت وتيرة المظاهرات ضمن المدينة بازدياد، وكانت القبضة الأمنية داخل المدينة ثقيلة وخانقة، لدرجة كانت المظاهرة داخل المدينة ترقى لمستوى العملية الاستشهادية، فالناس قبل المظاهرة تودع بعضها وتطلب امن بعضها الصفح والعفو، وإن رجعت بخير تهنئ بعضها بالسلامة، وأصبح جامع آمنة بحي سيف الدولة، المركز الرئيسي للمظاهرات، ثم دخلت لاحقا على الخط مساجد أخرى كمساجد الزبير، والناصر، وأويس، في حي صلاح الدين.

من أهم الركائز الثورية في مدينة حلب التي تميزت بها المدينة عن غيرها هي ثورة الجامعة، أو ما عرف بثورة المثقفين، فجامعة حلب تحولت لبركان يغلي من الثورة، وتحول طلابها بأغلبهم لخلايا نحل ثورية أرقت النظام كثيرا، خاصة في كلية العلوم، والصيدلة والطب البشري، والهندسة الكهربائية، لدرجة أنه أشيع أن النظام سينشئ فرع مخابرات خاص بجامعة حلب باسم الأمن الجامعي.

ما ساعد على انتشار الثورة بين صفوف الطلاب عدة أمور، أهمها المستوى الاجتماعي والثقافي، والثقة المتبادلة بين الطلاب نتيجة المعرفة المسبقة، واحتكاك طلاب مدينة حلب بإخوانهم من المحافظات الأخرى.

لم يدخر النظام جهدا في طمس ثورة حلب، ومن أحد وسائله الناجحة استخدام ما يسمى " الجيش السوري الإلكتروني " وهم مجموعة من الشبيحة الذين يعتبرون مثقفين مقارنة بالشبيحة العاديين، فقط لأنهم يجيدون نوعا ما التعامل مع وسائل التواصل وأجهزة الهاتف المحمول، وكان هؤلاء الشبيحة يبلغون على كل مقاطع المظاهرات في مدينة حلب مما يجعل اليوتوب يحذفها، فضاع أرشيف مهم للمظاهرات الأولى في مدينة حلب.

جدير بالذكر أن الأحياء التي خرجت منها الثورة في حلب، وأخرجت العديد من الثوار السلميين والعسكريين، هي الأحياء الراقية التي تسكنها الطبقات المثقفة، المتوسطة والمرتفعة الدخل، أما الأحياء المهمشة والفقيرة، فقد كان غالبية أبنائها يعملون لأوقات طويلة في ورشات صناعية يتبع أصحابها للنظام بشكل مباشر أو غير مباشر، وباستخدام الخبز وأفيون الدين المزيف تم تطويعهم لصالح النظام.

ورغم كل ذلك كانت الثورة في المدينة تزداد شيئا فشيئا، والنظام يخسر الغالبية الصامتة من المدينة لصالح الثورة، فحلب لم تكن مؤيدة للنظام، والنظام أذكى من أن يصرف جهده وموارده ووقته في جعلها تؤيده، بل كان أذكى من ذلك حيث جعلها بأغلبها على الحياد، والحياد تأييد مقبل عند النظام، لكنه بأواخر عام 2011 وبداية 2012 بدأ الحياد يتحول لثورة.


في الجزء الثاني بإذن الله نكمل ما حصل بعد أن دخلت حلب الثورة بقوة


جاد الحق


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق